
رغم الزخم الدعائي الذي رافق إعلان محمد شرع زعيماً جديداً لحركة ماسينا الجهادية، إلا أن المتحمسين لصعوده يتجاهلون حقيقة جوهرية: ماسينا وتنظيمات مماثلة لا تسعى لحكم العاصمة باماكو، ولا تعنيها المدن الجنوبية كسيغو وسيكاسو. بل تخوض معركتها الاستراتيجية في قلب البلاد، ساعية إلى فصل “وسط مالي” عن الدولة المركزية، وتثبيت نفوذها في الرقعة الممتدة من موبتي إلى مناطق فلانية القومية.
الجغرافيا السياسية للجهاد: لا جنوب، بل شمال ووسط:
تنظيم ماسينا، بعمقه الفولاني، يدرك أن السيطرة على المدن الكبرى ذات الأغلبية البمبارية مثل بمباكو وسيغو، غير ممكنة لا عسكرياً ولا اجتماعياً. هذه القناعة يتقاسمها أيضاً “تحالف نصرة الإسلام والمسلمين” الذي يضم كتائب مرتبطة بالقاعدة من جهة، والحركات الأزوادية ذات الطابع القومي العلماني أو الإسلامي من جهة أخرى.
الطموح الواقعي لتلك الجماعات يتركز على الشمال (كيدال، تمبكتو، غاو) ووسط البلاد (موبتي، دجينيه)، حيث تنهار بنية الدولة تدريجياً، وتنتشر مظلة التنظيمات المسلحة، من القاعدة إلى الدولة الإسلامية، مروراً بجماعة أنصار الإسلام والمسلمين، وكلها تستثمر في الفراغ الأمني، والتوترات العرقية بين الفولان والدوغون، لتوسيع مناطق نفوذها.
انسحاب فاغنر: فراغ جديد ونقطة تحول:
خروج قوات “فاغنر” الروسية من مالي — سواء تمّ بالكامل أو جزئياً — يمثل نقطة تحول مهمة في المشهد الأمني. فبعد انقلاب 2021 وتدهور العلاقات مع فرنسا، اعتمد المجلس العسكري في باماكو على فاغنر لسد الفجوة الأمنية الناتجة عن الانسحاب الفرنسي. إلا أن هذا الاعتماد لم يؤدِّ إلى تحسين ملموس في الأمن، بل زاد من تعقيد المشهد بسبب انتهاكات حقوق الإنسان واحتدام المواجهات مع المدنيين، لا سيما في وسط البلاد.
الفراغ الذي سيخلفه انسحاب فاغنر سيترك الحركات الجهادية أكثر حرية للحركة، وسيدفع المجلس العسكري نحو تحالفات جديدة — قد تكون مع تركيا أو إيران أو الصين — وهو ما يثير قلق القوى الغربية.
الجزائر – مالي: علاقة مشحونة ومفتوحة على المجهول:
من جهة أخرى، يلوح في الأفق توتر متصاعد بين الجزائر ومالي، خصوصاً بعد اتهام الجزائر لباماكو بتقويض اتفاق الجزائر الموقع عام 2015 مع الحركات الأزوادية. الجزائر، التي ترى في أزواد عمقاً أمنياً لها، تعتبر أي تهميش لتلك الحركات تهديداً مباشراً لحدودها. بينما يرى المجلس العسكري في الحركات الأزوادية خطراً على وحدة البلاد.
الجمود في تنفيذ الاتفاق، والتقارب المالي الروسي، يجعلان الجزائر أكثر حذراً، وقد يدفعانها لإعادة دعم بعض الفصائل الأزوادية، ما ينذر بإعادة إشعال الصراع شمالاً.
حلبة النفوذ الدولي: فرنسا تخرج وروسيا تتغلغل، وتركيا تراقب:
مالي اليوم ساحة مفتوحة لصراع نفوذ دولي:
فرنسا، التي كانت اللاعب الرئيسي لعقد كامل، فقدت ثقة الماليين وخرجت تحت الضغط الشعبي والعسكري.
روسيا دخلت عبر نافذة فاغنر والعتاد العسكري، لكن علاقتها بالنظام المالي تبقى محفوفة بالمصالح المتقلبة.
تركيا تسعى لبسط نفوذ ناعم من خلال دعم البنية التحتية والتعليم الإسلامي وتقديم المساعدات.
الولايات المتحدة وألمانيا تتابعان عن كثب التطورات، مع حضور أمني محدود وخشية من تكرار سيناريو أفغانستان.
الخطر على موريتانيا: حدود رخوة وتحديات أمنية جسيمة:
كل هذا يحدث قرب الحدود الشرقية لموريتانيا والجنوبية، حيث تنشط جماعات تابعة للقاعدة وتنظيم الدولة، ولا سيما في المثلث الحدودي مع مالي وبوركينا فاسو. المدن الموريتانية مثل كوبني وفصالة وعدل بكرو، وتناها وهامد وول ينج،.. ليست بعيدة عن مراكز التوتر. النشاط الجهادي، وإن لم يستهدف موريتانيا بشكل مباشر حتى الآن، إلا أن احتمالات التمدد تبقى قائمة، خصوصاً في ظل هشاشة بعض المناطق الحدودية.
ومع استمرار الانهيار الأمني في مالي، فإن نذر التهديد تزداد لموريتانيا، التي تعتمد حالياً على استراتيجية استباقية في مكافحة الإرهاب من خلال الاستخبارات، والوساطات القبلية، وبرامج إعادة تأهيل السجناء الجهاديين.
مالي… دولة في حالة غياب:
مالي اليوم ليست على أعتاب استعادة الاستقرار، بل على مفترق طرق بين التفكك والفدرلة الفعلية. منظمات جهادية تتوسع، وحركات انفصالية تنتظر لحظة الانقضاض، وقوى دولية تتصارع على النفوذ، وسط صمت دولي مثير للقلق. أما الجارة موريتانيا، فعليها أن تحصن حدودها وتعيد تقييم استراتيجياتها الأمنية، فالخطر لم يعد نظرياً، بل قاب قوسين أو أدنى.
إعداد: محمد سيدأحمد بوبه – محلل في الشؤون الأمنية والساحل الإفريقي