اختصاصه اقتصاد لكنه مع ذلك خبير في مجال تنمية وتطوير الذات. إنه الأستاذ محمد الأمين فاضل الكاتب والمدون النشط، والناشط الجمعوي والسياسي الموريتاني البارز. اشتهر بكونه صاحب المبادرات الشعبية ذات النفع العام الأكثر قبولا في موريتانيا، فقد قاد مبادرة توحيد المعارضة الموريتانية عام 2013 وهو يقود حملة «معا لمحاربة الفساد» منذ 2019. كما يقود الحملة الشعبية للتمكين للغة العربية، وله مع ذلك متابعاته للشأن العربي والدولي.
التقته «القدس العربي» وحاورته عن عدة موضوعات في مقدمتها محنة الحرب الصهيونية على غزة، ومن بينها الوضع في الساحل الأفريقي والحالة السياسية في موريتانيا، وكانت نتيجة اللقاء الحوار التالي:
○ ما هي نظرتكم للوضع بعد قرابة سنة من تفجر طوفان الأقصى؟ وما تقييمكم للوضع ولمجهود مقاومة الاحتلال الصهيوني المدعوم من الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية؟
• ونحن نقترب من الذكرى الأولى لطوفان الأقصى لابد وأن نسجل عدة ملاحظات مبشرة وفي منتهى الإيجابية، منها أن طوفان الأقصى أظهر أن جيش العدو ومخابراته ليسا بتلك القوة التي كان يسوقها العدو، كما أنه أماط اللثام عن أبشع وجه إجرامي في العالم حاليا، ألا وهو الكيان الصهيوني، والذي كان يصنف في الغرب على أنه كيان ديمقراطي ومتحضر وأنه ضحية للإرهاب الفلسطيني.
ومن تلك الملاحظات الإيجابية أن المقاومة في فلسطين ورغم شراسة العدو وارتكابه لأبشع أنواع الجرائم والإبادة، ورغم الدعم الكبير الذي يحظى به من طرف الولايات المتحدة الأمريكية، بل والشراكة الكاملة في جريمة الإبادة، رغم كل ذلك، استطاعت المقاومة أن تثبت أنها قادرة على الصمود، وعلى خوض حرب طويلة بمعنويات مرتفعة، ومن دون أي تراجع في نوعية وطبيعة العمليات والكمائن التي تنفذها ضد جيش العدو.
ونحن نقترب من الذكرى الأولى لطوفان الأقصى يمكننا أن نقول، وبكل اطمئنان، واعتمادا على العمليات التي تنفذها المقاومة، بأن المقاومة بخير.
هذا عن الملاحظة الإيجابية، أما الملاحظة السلبية، فهي أن التضامن العربي شعبيا كان أو رسميا ظل في تراجع ملحوظ.
وإذا كان التضامن العربي الرسمي لم يكن معولا عليه أصلا، لاعتبارات معروفة لا يتسع المقام لبسطها، فإن التعويل كان على التضامن الشعبي، وللأسف فإن التضامن الشعبي يعاني من قصر النفس، فقد بدأ بحد أدنى مقبول مع تفجر طوفان الأقصى، وظل في تراجع مستمر رغم استمرار الإبادة، مع وجود استثناءات بطبيعة الحال.
نأمل أن يتجدد التضامن الشعبي، وأن يعبر عن نفسه بأساليب جديدة أقوى، وأن يظهر بزخم جديد بمناسبة تخليد الذكرى الأولى لعملية طوفان الأقصى المجيدة.
○ ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه موريتانيا ودول المغرب العربي في دعم القضية الفلسطينية على الساحة الدولية؟
• يمكن القول بأن موريتانيا تعيش إلى حد ما وضعية مقبولة قد تساعدها في لعب دور ما في هذا الملف، فهي دولة مستقرة سياسيا وأمنيا في منطقة الساحل التي تعاني من مشاكل سياسية وأمنية بالغة التعقيد.
ولكن موريتانيا تبقى في النهاية مجرد دولة صغيرة تواجه العديد من التحديات، وبلدان المغرب العربي في مجموعها لا تختلف عن بقية البلدان العربية، فهي تعاني من مشاكل متعددة تجعلها غير قادرة حاليا على لعب دور فعال لصالح القضية الفلسطينية، فهناك قضية الصحراء والتي تجعل أكبر دولتين مغاربيتين (الجزائر والمغرب) على خلاف مستمر، وهناك دولتان تعيشان مشاكل أمنية أو سياسية (أمنية وسياسية بالنسبة لليبيا وسياسية بالنسبة لتونس) والتطبيع وصل للأسف الشديد إلى المغرب العربي، كل هذا يجعلنا لا نتوقع من حكومات دول المغرب العربي أن تلعب دورا فاعلا لصالح القضية الفلسطينية.
○ هل ترون أن الجهود الدبلوماسية العربية والدولية كافية لوقف العدوان على غزة أم أن مواقف التطبيع مع المحتل عائقة لذلك؟
• لا يمكن التعويل كثيرا على الجهود الدبلوماسية العربية، فالعرب يعيشون منذ عقود وضعية سيئة جدا، ويقتربون في هذه الفترة من أن يصبحوا «أمة فاشلة» إن جاز لي استخدام هذا المصطلح الذي كان ينحصر استخدامه في وصف الدول فنقول دولة فاشلة، فالدول العربية اليوم هي ما بين دول مطبعة، ومفككة، ودول غير مستقرة أمنيا وسياسيا، وكل دولة منشغلة بمشاكلها وهمومها الخاصة، وهذه الدول عاجزة عن حل مشاكلها الداخلية، فكيف لنا أن نتوقع منها دورا ضاغطا، عسكريا أو اقتصاديا أو دبلوماسيا لوقف حرب الإبادة التي يمارسها العدو الصهيوني بشراكة أمريكية معلنة على أهلنا في فلسطين؟
ثم إن حكومات العديد من الدول العربية تتلقى الأوامر من أمريكا، وحكوماتها لا تستطيع أن تُخالف الأوامر الأمريكية، وأمريكا اليوم ليست مجرد داعم للإبادة في فلسطين، بل هي شريك حقيقي في تلك الإبادة.
التعويل الأكبر في هذا المجال سيكون على دول غير عربية وغير إسلامية (جنوب أفريقيا مثلا) وعلى الشعوب الغربية، وخاصة الأجيال الشابة (طلاب الجامعات) الذين تحركوا بقوة ضد حرب الإبادة في فلسطين.
ضغط الشعوب الغربية على الحكومات الغربية إن استمر، وبوتيرة متصاعدة قد يكون من بين أهم العوامل الحاسمة لوقف العدوان الصهيوني.
○ كيف ترون تأثير الأزمات الدولية الحالية، مثل الحرب الروسية الأوكرانية، على استقرار العالم؟
• العالم يعيش عدم استقرار، وقد تتسع أماكن التوتر مستقبلا، وكل ما نشاهده الآن هو محاولة للخروج من عباءة نظام القطب الواحد، فأمريكا بدأت تفقد سيطرتها وهيمنتها العسكرية على الأقل، وعلى الصعيد الاقتصادي فإن الصين تنافس بصمت وبصبر استراتيجي، مستفيدة من انشغال أمريكا بحرب أوكرانيا، ومن انحيازها الفاضح، بل وشراكتها في واحدة من أبشع جرائم الإبادة التي حظيت بتوثيق غير مسبوق، فهذه الشراكة جعلت أمريكا تخسر ـ أو معرضة على الأقل لأن تخسر الكثير من قوتها الناعمة، فأمريكا اليوم وبعد مشاركتها عسكريا ودبلوماسيا واقتصاديا في جريمة الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، لم تعد قادرة على أن تتحدث باسم «الضمير العالمي» ولا أن تمثل «العالم المتحضر» الذي يُدافع عن حقوق الإنسان وعن «القيم الإنسانية والديمقراطية» في العالم.
أمريكا لم تعد قادرة وكما كانت على قيادة العالم لوحدها، والروس يسعون إلى استعادة بعض أمجاد الاتحاد السوفييتي سابقا، ولذا فهم يحاربون في أوكرانيا، ويسعون إلى أن يكون لهم وجود عسكري في بعض الدول الأفريقية، وقد لا يتمكن الروس من استعادة أمجاد ونفوذ الاتحاد السوفييتي، ولكنهم سيبقون قادرين على التشويش على أمريكا في عدة مناطق من العالم، وستكون الصين هي المستفيدة الأولى من ذلك، وذلك لكونها منشغلة بتعزيز نفوذها الاقتصادي في العالم مع النأي بنفسها ـ قدر الإمكان ـ عن أي صدام عسكري من أي نوع.
○ كيف تنظرون إلى تصاعد التوترات في منطقة الساحل الأفريقي، خاصة في ظل الانقلابات المتتالية، وفي ظل وصول جيل الشباب للحكم، كما وقع في السنغال؟
• تعيش منطقة الساحل حالة من عدم الاستقرار الأمني والسياسي، والذي يُعبر عن نفسه في كثير من الأحيان بكثرة الانقلابات العسكرية، فبالعودة إلى السنوات الأربع الأخيرة، فسنجد أنه تم تسجيل العديد من الانقلابات العسكرية في المنطقة، ففي آب/أغسطس 2020 شهدت مالي انقلابا عسكريا جديدا، وفي نيسان/إبريل 2021 شهدت تشاد انقلابا عسكريا جديدا، وفي ايلول/سبتمبر 2021 عرفت غينيا انقلابا عسكريا، وفي كانون الثاني/يناير 2022 وقع انقلاب جديد في بوركينافاسو، وفي تموز/يوليو 2023 حدث انقلاب جديد في النيجر، وفي آب/أغسطس 2023 سجل انقلاب في الغابون…وهكذا.
في المجمل، يمكن القول بأن الشباب في هذه المنطقة لم يعد يقبل بالفقر الذي يعيشه، ولا ببقاء النفوذ الاستعماري على حاله، وأصبح أكثر إصرارا على الوصول إلى السلطة، إما عن طريق الانقلابات العسكرية، وهذا هو الغالب الأعم، وإما عن طريق الانتخابات، وهنا تبقى الحالة السنغالية هي المثال الأبرز له، إن لم أقل الأوحد.
وهناك إصرار من الشباب في المنطقة للوصول إلى السلطة، ولكن أغلب عمليات الوصول تكون عن طريق انقلابات عسكرية، وهو ما يزيد من احتمال فشلها، ويبقى النموذج السنغالي الذي أوصل شبابا إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع هو النموذج الأمثل، والذي يمكن أن يعول عليه مستقبلا لأن يكون نموذجا يحتذى به في المنطقة، ولكن هناك تحديات كبيرة يواجهها النظام في السنغال، وقد بدأت ملامح تلك التحديات تظهر على السطح من خلال المواجهة مع البرلمان، والذي قرر الرئيس الشاب حله والدعوة لانتخابات مبكرة؛ وهناك أطراف كثيرة ستحاول إفشال التجربة السنغالية، ولن تكون فرنسا بعيدة عن تلك الأطراف، وذلك لأنها لا تريد سلطة في بلد أفريقي تمتلك الشرعية أو لا تمتلكها، تناصبها العداء، وتسعى لأن تحرر شعوبها من الهيمنة الاستعمارية، خاصة إذا كانت تلك السلطة لا تخفي ميولها الإسلامية، كما هو حال السلطة القائمة حاليا في السنغال.
○ هل استراتيجيات مكافحة الإرهاب التي تنفذها الدول الكبرى في المنطقة فعالة؟
• لا يمكن لهذه الاستراتيجيات أن تكون فعالة، فاستراتيجيات تلك الدول هي التي تغذي الإرهاب أو على الأقل، هي التي تمنح مبررات وحججا لمن يُمارس الإرهاب، قد تعينه على اكتتاب المزيد من الشباب الذي يعاني من الظلم والفقر والبطالة، بل ومن الإحباط واليأس، ولا يخفى دور الدول الكبرى التي تنهب خيرات الشعوب في الوضعية المزرية التي يعيشها شباب المنطقة.
ثم إن ازدواجية المعايير، والكيل بمكيالين التي يمارسها الغرب، وسعيه الحثيث لأن يجعل من شعوب المنطقة ودولها تتبع له ثقافيا ودينيا وحضاريا، ومحاولة فرض قيمه التي وصلت إلى مستوى من الانحطاط الكبير، ومن تجليات ذلك الانحطاط تشريع زواج شخصين من جنس واحد. إن كل ذلك سيساهم في تغذية الإرهاب بدلا من الحد منه.
○ كيف تقيمون المرحلة الجديدة في موريتانيا بعد فوز الرئيس الغزواني بمأمورية ثانية؟
• من المفترض أن تكون المرحلة الجديدة في موريتانيا مرحلة حوار وإصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة، فالرئيس محمد الشيخ الغزواني قد أصبح متحررا من إكراهات الترشح لمأمورية جديدة، ولم يعد ملزما بمجاملة الناخبين، وسيكون تركيزه منصبا على محاولة ترك أثر طيب يتذكره به الموريتانيون، بعد أن يخرج، وبشكل آمن، من السلطة في العام 2029.
طبعا، هذا المسار ستكون أمامه تحديات كبيرة وعوائق كثيرة، نرجو أن يتم التغلب عليها، فكل عملية إصلاح يقودها الرئيس الغزواني في مأموريته الحالية ستجد مقاومة قوية من بعض داعميه الذين سيتضررون من أي عملية إصلاح، فالفساد لا تمارسه المعارضة لأنها لا تتولى تسيير شؤون البلد، بل يمارسه بعض داعمي الرئيس، ولذا فمحاربة الفساد ستجد مقاومة قوية قد لا تكون معلنة من طرف بعض داعمي الرئيس؛ ثم إن الحرب على الفساد ستكون لها كلفتها التي يجب أن تدفع مسبقا من قبل جني ثمارها، ولذا فإن الإصلاح بشكل عام، ومحاربة الفساد بشكل خاص، يحتاجان إلى قرارات قوية لها كلفتها، تتخذ في بداية هذه المأمورية، ويعمل على تنفيذها بصرامة خلال السنوات الخمس القادمة.
○ ما رأيكم في مصادقة البرلمان على برنامج الحكومة، وهل ترون أن ذلك يعكس توافقا سياسيا داخل البلاد يمكن أن يتمخض عن واقع جديد؟
• لم يحدث في الماضي أن رفض البرلمان الموريتاني المصادقة على برنامج للحكومة، ربما تكون الحالة الوحيدة التي أظهر فيها البرلمان الموريتاني في غالبيته خلافا مع الحكومة، كانت في فترة الحكومة الثانية في عهد الرئيس الأسبق سيدي ولد الشيخ عبد الله رحمه الله، وكان ذلك الخلاف انعكاسا للصراع الدائر في النواة الضيقة للنظام، وقد حُسم ذلك الصراع بالقوة الخشنة من خلال انقلاب 06 آب/أغسطس 2008.
إن مصادقة البرلمان على برنامج الحكومة الحالية ليست بالأمر الجديد الذي يمكن أن نقول بأنه يبعث برسائل ما، لا جديد هنا، ومع ذلك فالحوار والتهدئة وخلق أجواء تساعد في تطبيع الحياة السياسية ستبقى كلها أمور محتملة الحدوث في المأمورية الحالية، فالرئيس محمد الشيخ الغزواني يسعى بجد إلى التهدئة السياسية، والمعارضة رغم تشتتها وغياب الانسجام في صفوفها، فستبقى دائما في غالبيتها تميل إلى الحوار، وتسعى إلى تهدئة سياسية تمكنها من وضع أسس قوية تحسن من شروط المنافسة في رئاسيات 2029.
○ هل تعتقدون ان حكومة ولد اجاي ستحقق وعودها المتعلقة بالحوار السياسي وبالإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، في وقت يطل فيه على موريتانيا الغاز؟
• الوزير الأول المختار ولد اجاي تتوفر فيه ميزات عديدة يمكن أن تساعده في تحقيق الوعود المتعلقة بالحوار السياسي وبالإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية: فخبرته الإدارية وتجربته السياسية قد تساعداه في الوفاء بتلك الوعود، ولكن سيبقى التحدي الأكبر بالنسبة له هو خلق انسجام داخل الأغلبية وبناء ثقة مع المعارضة لتحقيق تلك الوعود، ولا شك أن التحدي في هذا المجال سيكون قويا، فولد اجاي كان وزيرا في عهد الرئيس السابق، والذي يعتمد أسلوبه في الحكم على الصدام مع المعارضة، كما كان أيضا نشطا في سياسة الأحلاف داخل الأغلبية، كل ذلك الماضي قد يلقي بظلاله في الحاضر، وقد يزيد من التحديات التي ستواجهه في خلق انسجام داخل الأغلبية، وفي كسب ثقة المعارضة، وهي أمور يحتاجها كثيرا في المرحلة الحالية للوفاء بتعهداته المتعلقة بالحوار وبالإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية.
○ أنتم تقودون حراكا لمحاربة الفساد، ما هو تقييكم لمدى انتشار الفساد في البلاد؟
• في اعتقادي أننا دولة تفشى فيها الفساد بشكل رهيب، بل يمكن القول أننا دولة تخضع للاحتلال من طرف الفساد، وهذا هو حال العديد من دول المنطقة التي تحررت من الاستعمار الفرنسي، لتدخل من بعد ذلك في استعمار جديد بسبب تفشي الفساد، وللتحرر من هيمنة الفساد فلابد من حرب تحريرية ومصيرية يشارك فيها الجميع، حرب تقودها الحكومة وتستخدم فيها أسلحة فعالة وغير فاسدة، من أهمها وجود إرادة سياسية حقيقية وجادة لمحاربة الفساد، وتحرير الإدارة من الموظفين الذين اكتتبوا بطرق مشبوهة ولا يتمتعون بالحد الأدنى من الكفاءة والأهلية، واعتماد الشفافية ومعايير واضحة في الاكتتاب والتعيين والترقية، والعمل بمبدأ المكافأة والعقوبة، وتفعيل أجهزة الرقابة وتمكينها من الموارد البشرية والمالية اللازمة، وإعطائها صلاحيات أوسع، خاصة المفتشية العامة للدولة، ومحكمة الحسابات.
هذا عن الدور الرسمي في محاربة الفساد، أما الدور الشعبي، فنحن بحاجة إلى انتفاضة شعبية موازية للحرب على الفساد، تستخدم فيها كل الوسائل المتاحة كأسلحة، حالها في ذلك كحال أي انتفاضة شعبية أخرى.
ويجب أن يكون ضحايا الفساد، وخاصة الشباب، في الصفوف الأمامية في هذه الانتفاضة الشعبية، فمن الأخطاء القاتلة في الحروب التحررية ضد الفساد ألا يكون ضحايا الفساد في الخطوط الأمامية في تلك الحرب، وأن ينتظروا من يخوض عنهم حربا بالوكالة ضد الفساد، فكثير من رجال السياسة وكبار الموظفين في البلد يستفيد من الفساد، ولذا فليس من الحكمة أن ينتظر ضحايا الفساد من هؤلاء المفسدين أن يخوضوا نيابة عنهم حربا ضد الفساد.
ولا خلاف على أن شعار محاربة الفساد هو شعار مغرٍ انتخابيا، ويمكن أن يستقطب الكثير من المصوتين، ولذا فرفعه في حملة انتخابية قد يكون من أجل كسب الأصوات فقط، ونحن في موريتانيا عشنا تجارب مريرة في هذا المجال، وبالتالي أصبح من الصعب علينا أن نصدق مثل هذه الشعارات البراقة التي ترفع خلال الحملات الانتخابية، أو أن نتعامل مع من يطلقها بحسن نية.
تلك حقائق لا يمكن تجاوزها، ومع ذلك فإن إصرار الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني على تجديد التزامه بمحاربة الفساد بشكل صارم بعد طي صفحة الانتخابات، تجديد ذلك الالتزام في خطاب التنصيب، وفي رسالة تكليف الحكومة، وفي إعلان سياسة الحكومة، كل ذلك، وما صاحب ذلك من خطوات عملية، حتى وإن كانت ما تزال بالنسبة لنا دون المستوى، كل ذلك يعطينا أملا حذرا بأنه قد دخلنا زمن حرب جدية على الفساد، ذلك هو ما نتمنى، وذلك هو ما نرجو، فالمواطن الموريتاني لم يعد قادرا اليوم على تحمل خيبة أمل جديدة في مجال محاربة الفساد، والاستقرار الذي ننعم به الآن لن يكون بالإمكان استمراره خلال السنوات المقبلة إذا لم تكن هناك حرب جدية وحقيقية ضد الفساد والمفسدين.
○ ما هي أولوياتكم كناشط في المجتمع المدني الموريتاني خلال السنوات القادمة؟
• كثيرا ما أوصي الشباب الناشط في العمل الجمعوي بضرورة التخصص في مجال محدد، فالتخصص في مجال محدد مع تراكم الأعمال في ذلك المجال قد يأتيان بنتائج إيجابية.
ورغم دعوتي للتخصص في العمل الجمعوي فإني أجد نفسي مضطرا في كثير من الأحيان للعمل في عدة مجالات، وذلك لعدم وجود من يهتم بها، فالناشطون في العمل الجمعوي في بلادنا يتزاحمون في مجالات تقليدية محددة، ويتجاهلون مجالات أخرى بحاجة لأن تمنح لها الأولوية لأهميتها.
لقد اضطررتُ في العام 2016 رفقة بعض النشطاء لأن نطلق حملة توعوية ضد حرب الشوارع (حوادث المرور) والتي كانت ـ وما تزال تؤدي إلى سقوط عدد كبير من الضحايا، ومع ذلك فلم تكن توجد منظمة فاعلة ميدانيا للتوعية في مجال السلامة المرورية، وهو الشيء الذي فرض علينا أن نطلق حملة توعوية في هذا المجال.
وبعد ذلك بسنوات اضطررتُ رفقة بعض الشخصيات الوطنية المعروفة لأن نطلق حملة توعوية أخرى من أجل تفعيل إحدى مواد الدستور المعطلة (المادة السادسة من الدستور الموريتاني) وهي المادة التي تنص على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية الوحيدة في الجمهورية الإسلامية الموريتانية، ومع ذلك فما زالت أغلب القطاعات الحكومية تستخدم لغة أجنبية، وهو ما يمثل انتهاكا صريحا للدستور الموريتاني الذي صودق عليه منذ أكثر من ثلاثة عقود.
في الفترة الأخيرة، وفي ظل ما يعيشه الشباب من إحباط، وفي ظل تفشي المخدرات والجريمة في صفوفه، وفي ظل هجرة شبابية غير مسبوقة، كان لابد أن نقوم بعمل ما لصالح الشباب، ولذا أطلقنا برنامجا تدريبيا لاكتشاف وتنمية المواهب الشبابية، ونظمنا حتى الآن العديد من الدورات التدريبية في عدة مدن.
بالمجمل، يمكن القول إني أنشط على مستوى العمل الجمعوي، في عدة مجالات منها ما يخص السلامة المرورية، ومنها ما يتعلق بتفعيل مادة معطلة من الدستور الموريتاني، ومنها ما يركز على المواهب الشبابية، هذا فضلا عن الجهود التي أقوم بها في مجال محاربة الفساد، والتي أرى أنها تستحق تفرغا شبه كامل خلال الفترة القادمة، فنحن عندما نتمكن من الحد من الفساد في بلادنا (عدونا الأول) فإن ذلك سيساعدنا في التغلب على كل المشاكل الأخرى التي نعاني منها.
○ كيف ترون دور المجتمع المدني في تعزيز الشفافية والحكم الرشيد في موريتانيا؟
• للأسف ما زال دور المجتمع المدني في بلادنا ضعيفا، وهو في مجال محاربة الفساد وتعزيز الشفافية أكثر ضعفا، ولذا فقد حاولنا في حملة «معا لمحاربة الفساد» أن نستفيد من تجارب بعض الدول الشقيقة في هذا المجال، وفي هذا الإطار فقد استضفنا في حملة «معا لمحاربة الفساد» في الأسبوع الأخير من شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2020 الأستاذ عماد الدايمي رئيس مرصد رقابة في تونس، والمترشح حاليا في الانتخابات الرئاسية، وذلك ليستعرض لنا تجربة المجتمع المدني في تونس في مجال محاربة الفساد، لكي نستفيد منها هنا في موريتانيا.
بعد ذلك تقدمنا إلى الحكومة الموريتانية السابقة بمقترح يتعلق بتنظيم مؤتمر وطني لمحاربة الفساد يشارك فيه العلماء ورجال القانون وخبراء التربية ومنظمات المجتمع المدني الفاعلة في المجال والأحزاب السياسية، هذا فضلا عن الأجهزة الرقابية التابعة للدولة، وذلك من أجل تأسيس حلف وطني واسع لمحاربة الفساد، يتولى متابعة تنفيذ توصيات المؤتمر في مجال محاربة الفساد.
وتحضيرا لهذا المؤتمر فقد اتصلتُ شخصيا برئيس محكمة الحسابات، وبالمفتش العام السابق للدولة، وقد حددنا في الحملة بعد تلك الاتصالات موعدا للمؤتمر، ولكن في آخر لحظة وصلتنا أوامر من الوزير الأول السابق بالتوقف عن التحضير للمؤتمر دون إبداء الأسباب.
إن مؤتمرا وطنيا لمحاربة الفساد بهذا المستوى لا يمكن أن ينظم إلا من خلال شراكة حقيقية مع الحكومة، ونأمل أن تتبنى الحكومة الحالية فكرة تنظيم هذا المؤتمر، وأن تكون شريكا جديا في تأسيس حلف وطني واسع لمحاربة الفساد.