
تسعى الحكومة الموريتانية إلى مواكبة التحولات العالمية عبر إدماج التكنولوجيا الرقمية في منظومة التعليم، مستلهمةً رؤية الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي 2022–2025 التي تهدف إلى تعزيز قدرات الدولة وتحسين جودة الخدمات العامة، ومن بينها التعليم الرقمي (dig.watch). وأكد القانون رقم 2022-023 المنظم للنظام التعليمي الوطني أهمية التعليم الرقمي كجزء لا يتجزأ من مهارات القرن الحادي والعشرين، مع الالتزام بحق التعلم مدى الحياة لجميع المواطنين دون تمييز (unesco.org).
الإطار الوطني للتحول الرقمي في التعليم:
أطلقت وزارة الانتقال الرقمي والابتكار والتحديث الإداري خريطة طريقٍ تمتد حتى عام 2025، تتضمن ثلاثة محاور أساسية: تطوير البنية التحتية، وتأهيل الكوادر البشرية، وتحسين الحوكمة الرقمية (dig.watch). ومن خلال ورشة العمل الوطنية التي نظمتها الأمانة الفنية للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (ESCWA) في 24 يناير 2025، تم استعراض أفضل الممارسات الإقليمية والدولية في قطاع التعليم الرقمي، مع التركيز على دمج حلول التكنولوجيا في المدارس ومراكز التدريب (unescwa.org).
المبادرات الإقليمية والدولية:
يمثل مشروع “RELANCE” الإقليمي الذي أقره البنك الدولي في 21 مارس 2025 ركيزة مهمة لدعم التعليم المفتوح والوظائف للشباب، حيث يستهدف إنشاء معهد إقليمي للتعليم وتدريب 1,500 محترف في مجال التعليم ومساندة 850,000 شاب من الفئات المهمشة، نصفهم من الفتيات، عبر نموذج “المدرسة المفتوحة” الذي يجمع بين التعلم الحضوري والرقمي (worldbank.org). ويندرج هذا المشروع استجابةً لحاجة المنطقة إلى مسارات تعليمية مرنة ومستدامة في مواجهة تحديات الصراع والمناخ والحرمان التعليمي (worldbank.org).
التحديات الراهنة:
رغم الطموحات الحكومية، تواجه موريتانيا عقبات عدة في مسار التحول الرقمي، أبرزها ضعف البنية التحتية للاتصالات وانخفاض النفاذ إلى الإنترنت، حيث لا يتجاوز معدل الانتشار 25% من السكان حتى عام 2021، مع تفاوتٍ كبير بين المناطق الحضرية والريفية (bmz-digital.global). كما تُعدُّ الكلفة المرتفعة للأجهزة الرقمية وتشغيل الخدمات عائقاً أمام أولياء الأمور والطلاب، إلى جانب النقص الحاد في تأهيل المعلمين على استخدام المنصات التعليمية الرقمية وافتقار المناهج لأسس التطوير الرقمي الفعلي (bmz-digital.global).
قصص وتجارب ميدانية:
في ظل محدودية الاتصال، نفذت مراكز التحول الرقمي في موريتانيا حلول “التعلم دون اتصال” عبر أجهزة محمولة مزودة بمحتويات تعليمية مفتوحة المصدر، بالتعاون مع فريق Atingi وبتدريب محلي لضمان استدامة الصيانة والتحديث. كما شاركت مبادرة “المدرسة الرقمية” بدولة الإمارات ورشة عمل استراتيجية في نواكشوط، ركزت على وضع خارطة طريق شاملة للتحول الرقمي عبر شراكات متعددة القطاعات.
نظام “سراج”: بين الطموح وواقع التنفيذ:
أطلقت وزارة التربية الموريتانية نظام “سراج” لرقمنة التعليم، لكن تظهر تساؤلات حول كفاءة الآليات الميدانية المعتمدة للتنفيذ في بلد يعاني من ضعف البنية التحتية التكنولوجية. يرتكز هذا القسم على تحليل ميداني وحوارات مع خبراء لتقييم جدوى البعثات التدريبية المكلفة بالنظام، ويقترح بديلاً عمليًّا يوفر الموارد ويحقق الأهداف ذاتها.
أولًا: إشكالية البعثات الميدانية.. تكاليف باهظة مقابل نتائج محدودة:
وفقًا لتصريحات مسؤولين في وزارة التربية، تصل تكلفة إرسال بعثات تدريبية إلى جميع الولايات إلى 500 مليون أوقية تقريبًا (مصادر داخلية)، فيما تشير دراسات خبراء في الإدارة العامة إلى أن كثافة هذه البعثات لا تبررها التكلفة، مقارنة بالبدائل التقنية الأكثر كفاءة مثل:
تجهيز 10 مكاتب إقليمية مزوَّدة بأجهزة حاسوب عالية السرعة واتصال إنترنت فائق.
ربط المدارس والمديريات التعليمية عبر خطوط هاتفية مخصصة لرفع البيانات مباشرةً على منصة “سراج”.
تدريب مشرفين محليين في كل ولاية عبر ورش افتراضية، بدلاً من الاعتماد على فرق مركزية متنقلة.
رأي الخبراء:
د. أحمد ولد الزين (خبير تحول رقمي):
“الاستثمار في البنية التحتية التكنولوجية أولوية قبل إرسال بعثات ميدانية مكلفة. موريتانيا تحتاج إلى خريطة رقمية للمدارس قبل تفعيل أي نظام إلكتروني.”
السيدة ميمونة أحمد (مديرة مدرسة ثانوية في نواكشوط):
“نقص الكهرباء والإنترنت في المناطق النائية يجعل فكرة البعثات الميدانية غير واقعية. الأفضل توفير أجهزة بسيطة للمديريات مع تدريب عن بُعد.”
ثانيًا: تحديات جوهرية تُهدد نجاح “سراج”:
- ضعف تغطية الإنترنت: 40% فقط من المدارس الموريتانية موصولة بالإنترنت (تقرير اليونسكو 2024).
- الأمية الرقمية: 65% من العاملين في القطاع التربوي لا يجيدون استخدام الحواسيب (مسح ميداني لجمعية “التعليم أولًا”).
- مقاومة التغيير الإداري: اعترافات داخلية من موظفين في الوزارة تُفيد بأن بعض الكوادر يرفضون التخلي عن الأساليب الورقية التقليدية.
ثالثًا: بديل مُقترح.. تحقيق الأهداف بتكلفة أقل:
البديل المقترح يوفر 70٪ من التكاليف عبر الاعتماد على المكاتب الإقليمية المجهزة.
البعثات الميدانية: تكلفة عالية بالمقارنة مع البديل المقترح، حيث ستكلف البعثات ميزانية الوزارة تكاليف عالية في النقل والإقامة وطباعة المواد التدريبية.
البديل المقترح سيوفر تدريب عملي مكثف عبر منصات افتراضية مع دعم فني مباشر.
بينما ستكلف البعثات تدريبات نظرية بعيدة عن الواقع الميداني وسيكون هناك تكاليف إضافية غير محسوبة، من خلال تعقيد المنهج التدريب التي تختلف عن ما سيوفره المقترح من خلال العمل والتفاعل المباشر عبر المنصات في أخذ واعطاء وإدخال البيانات بشكل تفاعلي وتشاركي ٱني.
البديل المقترح يقدم فرصة لرفع البيانات ومعالجتها عبر الاتصال مركزي مع المدارس بشكل مباشر عبر مكتب مجهز بكل وسائل الاتصال.
بينما ستتأخر معالجة البيانات التي ستجمعها البعثات بسبب تنقل الفرق بين الولايات، بينما يقدم البديل المقترح ٱلية سريعة وسلسة لتدفق البيانات بشكل غير محدود عبر الهاتف والانترنت.
رابعًا: تجارب دولية.. دروس مستفادة:
رواندا: نجحت في رقمنة التعليم عبر توزيع أجهزة لوحية على المدارس مع تدريب المعلمين عبر مقاطع فيديو على YouTube.
تونس: اعتمدت على مراكز إقليمية مجهزة كحلقة وصل بين المدارس والوزارة، ما خفض التكاليف بنسبة 50%.
خامسًا: توصيات التقرير:
- تعليق البعثات الميدانية مؤقتًا وإعادة توجيه الميزانية لتحديث البنية التحتية الرقمية.
- توقيع شراكة مع شركات الاتصالات لتوفير إنترنت مجاني ومستقر للمدارس.
- إلزام جميع المديريات برفع البيانات أسبوعيًا عبر خط هاتفي موحد.
- إشراك منظمات المجتمع المدني في مراقبة وتنفيذ نظام “سراج”.
يمكننا القول : إنه بينما يُشكّل التحول الرقمي قاطرةً للتنمية والتعليم، يبقى التحدي الأكبر في تجسيد هذه الرؤية على أرض الواقع في موريتانيا. إن مبادرة “سراج” قد تشكل نقلة نوعية إذا ما تجنبت الوزارة الفخاخ البيروقراطية واعتمدت حلولًا ذكية تستند إلى إمكانات البلاد الحقيقية، مع إشراك جميع الأطراف لتحقيق تعليم رقمي منتج ومستدام يخدم مستقبل الأجيال.
تقرير : محمد سيد أحمد/ كاتب صحفي وباحث وخبير في مجال الإعلام والاتصال