
جسد النصف الأخير من القرن الماضي، ما يصدق عليه القول كونه مرحلة التضخم الأيديولوجي بامتياز، ففي الوقت الذي رأت فيه الإيديولوجيا العربية على أنها قادرة على تحقيق النهضة على أرض الواقع وفي سياق الدول القطرية المتناثرة، بذل الماركسيون أقصى جهودهم من أجل بلوغ مرحلة سلطة البروليتاريا؛ وبعد أن فشلوا في تحقيق ذلك رفع الإسلاميون شعار: الإسلام هو الحل.
في عالمنا العربي، الكل وظف جروح الاستعمار بطريقته الخاصة، فالتيارات الماركسية وضعت نصب أعينها عدو واحد هو الإمبريالية الغربية. في حين رأى البعض ان حل مشاكل العالم العربي تكمن في تبني الاشتراكية العلمية. وصراعهم مع الغرب ينحصر في رفضهم للإمبريالية الغربية ومن يمثلها، أما الاشتراكية ففيها يكمن الحل. بينما التيار القومي العروبي ترك نفس المسافة بين الليبرالية والاشتراكية وحاول المزج بين كل الاتجاهات. وقد شكلت القومية، إيديولوجيا الحكم في عدة أقطار مع اختلافات في تطبيقاتها.
أما التيارات الإسلامية فقد أعرضت عن كل ما هو غربي؛ فالأخير بالنسبة لهم ومن يمثله من التيارات المختلفة موضوع صراع، وتم استثمار بعض القضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، حيث تم التركيز على فكرة الصراع وتم استرجاع تاريخ الحضارة الإسلامية وصراعها مع امبراطوريات الجوار كشاهد. إلا أن هذه المرحلة لم يكن الإسلاميون يملكون سندا تنظيريا لتأطير طرحهم وأيديولوجيتهم، بالرغم من القدرات التنظيمية للمؤسس، كان يجب أن ننتظر كبير منظريهم سيد قطب دون أن ننسى أبو الأعلى المودودي، لتتوسع إيديولوجيا الإسلام السياسي في الدول الإسلامية تحت مسميات عدة.
الإسلاميون استثمروا كثيرا في رمزية الاختلاف وخصوصا في الفضاء العام قولا ومظهرا وحركية، فهم يعشقون اختلاق أشكال متعددة تميزهم عن غيرهم وترمز إليهم، وصارت دلالة على ما يُمثلهم ويميزهم عن غيرهم، حتى مفردات خطابهم استحدثوها لتحقيق هدف الاختلاف.
خطاب حركات الإسلام السياسي اليوم، تجاوزتها الإشكالية الحضارية للعالم العربي/الإسلامي، فاختفاء الشيوعية أو الماركسية لم يحل قضايانا العالقة، نفس الأمر ينطبق على حركات الإسلام السياسي، فزوالها لا يعني أن العقل الجمعي بخير، فأزمتنا أزمة عقل، وعلاقة هذا العقل بالواقع وبالآخر وبالماضي والحاضر والمستقبل. هي نفسها الإشكالية التي ناقشت سياق الأزمة بشكل متعدد ومتنوع، حيث تناولها محمد عابد الجابري وعبدالله العروي ومحمد أركون وجورج طرابيشي وطيب تيزني وآخرون في العديد من كتاباتهم وجدالهم الفكري.
ما دام العقل العربي والإسلامي لم يتطور بالشكل المطلوب، فالأزمة المعرفية ستظل حاضرة وتختلف بين سياق وآخر، وقد تكون لها نفس العواقب أحيانا، وقد تنتج حركات أخرى في سياقات مختلفة وأماكن وأزمنة مختلفة. في نظري، اليوم، الأزمة مركبة ولا ينفع معها الفهم المجزأ، بل قراءة شاملة للواقع واستشراف حلول آنية، أزمتنا بحاجة لمناهج معرفية تستحضر الكثير من المفارقات المعرفية نحو فهم مركب للفرد للواقع.
بقلم الكاتب الصحافي المختص في الشؤون العربية والإفريقية: عبد الله العبادي