
الريادة: في وقت تتراجع فيه جاذبية النموذج الروسي في آسيا الوسطى، لصالح سردية “العالم التركي المُوحّد” بقيادة أنقرة، لا يُعتبر مشروع “الأبجدية التركية الموحدة” مُجرّد مُبادرة لغوية، بل أداة سياسية وثقافية تسعى تركيا من خلالها إلى توسيع نفوذها في قلب القارة الآسيوية.
وفي تحليل نشرته صحيفة “لا كروا” الفرنسية، تناولت الكاتبة والمحللة السياسية أبولين فيلبوا، مُبادرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المُتعلّقة بتبنّي نسخة موحدة جديدة من الأبجدية اللاتينية، تهدف إلى توحيد اللغات التركية، وقطع الصلة نهائياً بالأبجدية السيريلية المُرتبطة بالإرث السوفييتي والهيمنة الروسية في آسيا الوسطى.
كتابان رمزيان
وفي مطلع شهر أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، اجتمع قادة “منظمة الدول التركية” في مدينة “غابالا” بأذربيجان، بمُشاركة كلّ من: تركيا، كازاخستان، قرغيزستان، أوزبكستان، وأذربيجان، إضافة إلى 3 وفود مُراقبة هي تركمانستان، المجر، وجمهورية شمال قبرص التركية، غير المُعترف بها دولياً.
وباستثناء المجر، تجمع هذه الدول روابط لغوية وثقافية مُشتركة تنتمي إلى عائلة اللغات التركية المُنتشرة من أوروبا الشرقية إلى أقصى آسيا، وتشمل التركية والأذرية والأوزبكية والقرغيزية والأويغورية وبعض لغات سيبيريا. ورغم التباينات، فإنّ لغات هذه الشعوب تبقى مُتقاربة ومفهومة نسبياً فيما بينها.
وفي هذا السياق، حضر أردوغان القمة حاملاً “كتابين رمزيين”، الأول بعنوان “أوغوزنامه”، وهو مجموعة من الأساطير الشعبية المُشتركة بين الشعوب التركية، والثاني من تأليف الكاتب القرغيزي الراحل “تشنغيز أيتماتوف”. وتكمن أهمية هذين العملين في أنّهما أوّل كتب تُنشر باستخدام “الأبجدية التركية الموحدة”، وهي صيغة جديدة من الأبجدية اللاتينية تضم (34 حرفاً)، صاغها مجلس لغوي تابع لمُنظّمة الدول التركية في أواخر عام 2024 بهدف توحيد أنظمة الكتابة في الدول التركية والتخلّي عن السيريلية نهائياً.
حماس مُتفاوت
وتصف الصحيفة الفرنسية هذه الخطوة، بأنّها “مشروع نفوذ ثقافي بامتياز” يندرج في إطار رؤية سياسية تركية طويلة الأمد. ويقول الباحث بيرام بالجي، من مركز الدراسات الدولية في معهد العلوم السياسية في باريس، إنّ “تركيا تسعى منذ سنوات إلى بناء ما يُشبه كتلة تركية مُوحّدة”.
ويُضيف المدير السابق للمعهد الفرنسي للدراسات حول آسيا الوسطى في طشقند، أنّ تأسيس منظمة الدول التركية عام 2009 كان نتاجاً لمُبادرة أنقرة، وأنّها تظل المُحرّك الرئيسي لفكرة التكامل بين الدول الناطقة بالتركية، يليها أذربيجان بدرجة أقل، ثم كازاخستان، فيما تُشارك بقية الدول بحماس مُتفاوت.
تخلٍّ عن الإرث السوفييتي
ويُشير بالجي إلى أنّ تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، منح الدول التركية في آسيا الوسطى فرصة لتأكيد هويتها القومية، بعد عقود من فرض الأبجدية السيريلية. وفي المُقابل، كانت تركيا قد اعتمدت الأبجدية اللاتينية منذ عشرينيات القرن الماضي، في إطار إصلاحات مصطفى كمال أتاتورك.
ومُنذ الاستقلال، سعت دول مثل أذربيجان وتركمانستان، إلى تبنّي الأبجدية اللاتينية بالكامل، في حين ما تزال أوزبكستان تستخدم نظاماً مزدوجاً يجمع بين اللاتيني والسيريلي. أما قرغيزستان وكازاخستان، اللتان لا تزالان تحت تأثير روسي قوي، فقد أعلنتا رغبتهما بالانتقال إلى الأبجدية اللاتينية، لكنّ السيريلية لا تزال مُنتشرة على نطاق واسع.
رغبة في الانفتاح
ومن جهتها، تنظر موسكو بقلق إلى هذا التحوّل الذي تعتبره مؤشراً على ابتعاد جيرانها الناطقين بالتركية عن مجال نفوذها. ويرى الباحث بالجي أنّ اعتماد الأبجدية اللاتينية لا يُعبّر فقط عن رغبة في التحرر من الإرث الروسي، بل أيضاً عن تطلع إلى الانفتاح على العالم، وربط هذه الدول بالمنظومة الثقافية الغربية.
وتعهّد أعضاء منظمة الدول التركية، باعتماد الأبجدية الموحدة ذات الـ34 حرفاً في المناهج التعليمية، والأبحاث الأكاديمية، والوثائق الرسمية، بما يجعلها أداة جديدة لتعزيز التقارب الثقافي والسياسي داخل الفضاء التركي المُشترك.
بُعد سياسي داخلي
وترى “لا كروا” أنّ مُبادرة أردوغان تحمل كذلك بُعداً داخلياً واضحاً. ففي تركيا تُوجد فئة من المُجتمع ومن السلطة الحاكمة ذات نزعة قومية قوية، تُؤمن بضرورة التقارب مع الشعوب التركية الأخرى. ويُتابع بالجي قائلاً إنّ “إظهار أردوغان اهتمامه بقضايا العالم التركي يُعزز مكانته داخلياً، ويزيد من شعبيته بين أنصار الخط القومي المُحافظ والمُتشدد.
وبحسب مُحللين فإنّ اعتماد الأبجدية المُوحّدة يعكس تحوّلاً أعمق في موازين القوة الناعمة داخل الفضاء الأوراسي. ويُعبّر المشروع في جوهره، عن صراع هويات ومناطق نفوذ أكثر منه مُجرّد إصلاح لغوي. فهو إعلان واضح عن رغبة هذه الدول في إعادة تعريف موقعها بين الشرق والغرب، وتأكيد انتمائها إلى عالم تركي جديد، تتصدره أنقرة وتراه جسراً بين التاريخ والإرادة السياسية المُعاصرة، بينما تفقد روسيا ما تبقّى لها من نفوذ تاريخي في آسيا الوسطى.




