
الريادة: تمتد مقاطعة باركيول على رقعة شاسعة، كأنها شريان جغرافي نابض في قلب موريتانيا، وركيزة من ركائز ولاية لعصابة.
غير أن هذا الامتداد المهيب، الذي يَعِد بالخير والاتساع، يخفي وراءه واقعا تعليميا هشا، يكاد ينهار، حيث تترنح المؤسسات التربوية تحت وطأة التهميش المزمن، الذي لم يعد مجرد إهمال عابر، بل شبيها بسياسة إقصاء متراكمة أفقدت الجيل الصاعد الثقة في مستقبل التعليم الحكومي.
فعلى الرغم من مكانتها التاريخية وأهميتها الاستراتيجية، تقف باركيول اليوم عند مفترق طرق خطير، حيث تتآكل البنية التربوية وتنهار الخدمات الأساسية، في مشهد يشي بانسحاب الدولة من واجبها الأصيل. إن ما يعيشه أبناء المقاطعة ليس مجرد نقص في الفصول أو المعلمين، بل أزمة بنيوية عميقة تهدد مستقبل جيل كامل، وتحوّل الحق في التعليم إلى مطلب مؤجل.
وهنا، لا يكفي الحديث عن “العدل” في التوزيع، بل يصبح النداء صريحًا من أجل تمييز إيجابي عاجل يعيد لهذه الأرض موقعها الطبيعي في خارطة الاهتمام الوطني.
في هذا التقرير، سنزيح الغطاء عن الأزمة، ونستعرض محاورها الثلاثة الكبرى، كاشفين حجم التحدي الذي يفرض نفسه على الوزارة والفاعلين المحليين، ويضع باركيول أمام سؤال مصيري: هل يُترك أبناؤها على هامش المستقبل، أم يُستجاب لصرختهم بإنصاف واستثمار؟
المحور الأول: الأزمة الهيكلية ونقص البنية التحتية
تتركز التحديات في البنية التحتية على نقاط حيوية تؤثر مباشرة على سير العملية التربوية:
- نقص الحجرات والاكتظاظ: على الرغم من وجود بعض المدارس “المكتملة” في البنية، إلا أن غالبية المؤسسات التعليمية تعاني من اكتظاظ كبير في الفصول. ففي بعض المدارس الكبرى، يصل عدد التلاميذ إلى أكثر من 500 تلميذ، بينما لا يتجاوز عدد الحجرات 10 فصول، مما يفرض ضغطاً هائلاً على البنية القائمة.
- انعدام المرافق والتجهيزات: تشير التقارير إلى غياب أساسي لتجهيزات حيوية، مثل الزي المدرسي، في العديد من المؤسسات، بالإضافة إلى نقص حاد في الأدوات والموارد التربوية الأساسية اللازمة لإكمال الدورة التعليمية.
- مشاكل التجميعات والبعد الجغرافي: تُعاني التجمعات القروية من تحديات النقل والوصول إلى المؤسسات الثانوية. فبعض الثانويات المتميزة، مثل ثانوية الغبرة، ترتادها أعداد كبيرة من الإناث، لكن المناطق التي تغذيها بالطلاب بعيدة جداً، مما يبرز الحاجة الماسة لوسائل نقل مناسبة أو توفير أقسام داخلية كبديل لتشجيع استمرار التعليم.
المحور الثاني: النقص الحاد في الكادر التعليمي وتأثيره على الجودة
تُعد أزمة الكادر البشري هي التحدي الأبرز الذي تواجهه مقاطعة باركيول، ويتجلى ذلك في النقاط التالية:
- عجز المدرسين: تعاني المدارس، سواء المكتملة أو غير المكتملة، من نقص حاد في أعداد المعلمين. أمثلة واضحة لهذا النقص تشمل:
- مدارس مكتملة (مثل بوبقجة أو التجانية) يعمل فيها معلمان فقط.
- مدرسة الفوز، التي تضم أكثر من 500 تلميذ، لا يوجد فيها سوى سبعة معلمين.
- مدارس غير مكتملة (مثل مدرسة التجار) يدرس فيها حوالي 200 تلميذ بمعلم واحد فقط.
- مدارس مفتوحة بدون معلم: توجد مدارس تم افتتاحها بالفعل (مثل مدرسة ركوره ومدرسة بافه)، لكنها تفتقر للمعلمين تماما، مما يعطل العملية التعليمية بالكامل.
- مدرسة قرية آشويبر (دار السلامة): أغلقت بحجة التجمع دون مراعاة الظروف ولا الموضع الجغرافي وهشاشة السكان، ليبقى أطفالها بلا دراسة منذ عام 2013 وإلى وقت كتابة هذا التقرير.
- تدهور جودة المخرجات: يفاقم النقص في الكادر التعليمي من ضعف جودة المخرجات التربوية. ويظهر هذا بوضوح في نتائج المسابقات الوطنية، حيث سجلت بعض المدارس (مثل مدرسة بق الماء) نسبة نجاح بلغت صفرا في مسابقة “كنكور” في إحدى السنوات الأخيرة، مما يعكس تدهورا خطيرا في مستوى التحصيل.
- التسرب المدرسي: يؤدي ضعف البنية التحتية ونقص الكادر إلى تقلص أعداد الناجحين في المسابقات، مما يغذي ظاهرة التسرب المدرسي بين أبناء المقاطعة الذين يضطرون لترك الدراسة والبحث عن سبل عيشهم.
المحور الثالث: التعليم المحظري والبعد الثقافي
بالإضافة إلى التعليم النظامي، تتميز مقاطعة باركيول ببعدها التاريخي في التعليم المحظري، حيث تزخر بالعلماء والأعلام الذين تخرج على أيديهم الكثير من أبناء المنطقة.
ورغم أن هذا يمثل ميزة ثقافية وروحية للمقاطعة، إلا أن التحدي يكمن في كيفية دمج هذا الإرث الغني مع متطلبات التنمية والتعليم العصري، بما يتماشى مع خطط إصلاح التعليم الوطنية (مثل مشروع المدرسة الجمهورية).
ضرورة التمييز الإيجابي
إن واقع التعليم في مقاطعة باركيول يتسم بالهشاشة، حيث يتشابك النقص الحاد في الكادر التعليمي مع ضعف البنية التحتية والاكتظاظ، مما يهدد مستقبل الأجيال الصاعدة فيها.
تظل باركيول، كجزء من منطقة تعاني من عزلة شبه تامة وظروف اقتصادية واجتماعية هشة، بحاجة ماسة إلى:
- تعزيز الكادر البشري: توفير وتثبيت عدد كافٍ من المعلمين المؤهلين للمدارس المكتملة والجديدة، مع تخصيص حوافز استثنائية لجذب الكفاءات للمناطق الصعبة.
- دعم البنية التحتية: الإسراع في استكمال المدارس غير المكتملة وتوفير التجهيزات الضرورية (مثل الزي المدرسي والموارد التعليمية).
- تدخل تنموي شامل: نظراً لأن التعليم يتأثر بالبيئة المحيطة (نقص الماء الصالح للشرب، ومشاكل الزراعة)، فإن الحلول التعليمية يجب أن تكون جزءا من برنامج تنموي شامل يستهدف “مثلث الأمل” لانتشال الساكنة من الفقر وتوجيه الأبناء نحو التعليم.
في النهاية نشير إلى مفتشية التعليم على مستوى المقاطعة بقياد الأستاذ يعقوب ولد إسماعيل، تحاول قدر المستطاع القيام بدورها الرقابي، غير أنها هي الأخرى تعاني من شح في الإمكانيات التي تسمح لطاقمها بالتنقل بين مدارس المقاطعة المترامية الأطراف.
تقرير: بلال عالي أعمر لعبيد




